ما الذي تراه حين تنظر إلى شاشة الأخبار التي تعرض مشاهد الحرب في غزة؟ ربما ترى أمًّا تحتضن صغيرها في كفنه الأبيض، أو جدًّا يقبّل عيني حفيدته قبل وداعها الأخير، أو مقاتلا من أصحاب الأرض يحمل عبوة متفجرة يلصقها على آلية عسكرية، أو فتى ينحدر من أصول أوروبية يطلق النار على عُزّل يتجمعون حول شاحنة مساعدات توزع طحينا على الجائعين. هذا في الغالب ما يراه المشاهد المنتمي لهذه المنطقة، لكنه بالتأكيد ليس ما يراه الجميع.
بالنسبة لمصرفيّ في بنك مورجان ستانلي في نيويورك، أو موظف في شركة لوكهيد مارتن في ولاية ميريلاند، فإنه يرى مشهدا مختلفا؛ مسدسا ثمنه 500 دولار للقطعة في السوق السوداء، وخوذة تُقدّر 600 دولار، ودرعا واقيا من الرصاص بـ 1500 دولار، ورشاشا يبلغ ثمنه 7000 دولار، وصاروخا يبلغ ثمنه أضعاف أضعاف ذلك، ومروحية أباتشي بخمسين مليون دولار، وطائرة إف-16 بعشرات الملايين. إنه يرى صناعة قائمة واقتصادا كاملا يحتاج إلى الحرب أكثر مما تحتاج الحرب إليه.
إن الهدف الأساسي لتلك الشركات هو إنتاج مزيد من الأسلحة وإرسالها إلى حلفاء الولايات المتحدة في كل بؤر الحروب الجارية، للحفاظ على تفوقهم النوعي، سواء كانت أوكرانيا أو دولة الاحتلال؛ اقتصاد كامل قائم على الحروب حول العالم، كلما اندلعت الحروب تضخمت المكاسب. فغالبا ما يؤدي الطلب المتزايد على العتاد العسكري، بسبب هذه الحروب، إلى زيادة هائلة في إيرادات تلك الشركات. فحتى المساعدات المالية الأميركية التي يقرها السياسيون لإسرائيل تُترجم غالبا إلى عقود لصالح شركات السلاح الأميركية بصورة مباشرة، ويترافق معها تزايد في الطلب على هذه الأسلحة. وعند هذه المرحلة، تعمل آلة اقتصاد الحرب بأقصى قدراتها، مما يعكس حالة من التماهي بين المكاسب الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية والإمكانات التقنية والصناعية لتلك الشركات.
مثلا، وأثناء جلسات مناقشة أرباح الربع الثالث من العام الماضي في أكتوبر، أشار محللون من أشهر البنوك عالميا، مثل بنك مورغان ستانلي وبنك "تي دي"، إلى تحقيق أرباح من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وطرحوا تساؤلات مباشرة وقاسية حول الفوائد المالية التي تأتيهم من شركات الأسلحة التي يساهمون فيها، كما ذكرت صحيفة الغارديان حينها. هذا البعد المالي هو أحد الجوانب الأساسية لاقتصاد الحرب، إذ إن دواعي النزاعات هي التي تدفع ديناميات السوق داخل صناعة التسليح، ومعها تبرز تقاطعات دوافع تحقيق الأرباح بالنسبة للشركات، مع الاحتياجات العسكرية للدول المستفيدة، مثل دولة الاحتلال في هذه الحالة.
من المهم إدراك أن خمسًا من أكبر ست شركات أسلحة عالميا تقع في الولايات المتحدة، وفقا لتصنيف موقع ديفِنس نيوز الذي يرتبها حسب حجم المكاسب السنوية، وهي شركات لوكهيد مارتن (Lockheed Martin)، و"آر تي إكس" (RTX) المعروفة باسم رايثيون (Raytheon)، ونورثروب جرومَّان (Northrop Grumman)، وبوينغ (Boeing)، وجنرال دايناميكس (General Dynamics). وتبيع تلك الشركات منذ سنين عدة أسلحتها لجيش الاحتلال لتستخدمها ضد الفلسطينيين، ولكن منذ طوفان الأقصى وما تبعه من أحداث، زادت مبيعاتها بصورة هائلة لإسرائيل؛ مما أدى إلى ارتفاع متزايد في أسعار أسهمها.
وحتى قبل اندلاع حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، كان الغزو الروسي لأوكرانيا يحفز مكاسب هذه الشركات من بيع وإنتاج الأسلحة. وهذا ما أكدته بيانات وزارة الخارجية الأمريكية، في نهاية يناير الماضي، بارتفاع مبيعات المعدات العسكرية الأميركية للحكومات الأخرى عالميا في عام 2023 بنسبة 16%، مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى مستويات قياسية بلغت 238 مليار دولار.
زادت مبيعات الشركات الأمريكية المباشرة إلى 157.5 مليار دولار بنهاية عام 2023 مقارنة بنحو 153.6 مليار دولار في السنة السابقة 2022، وارتفعت المبيعات التي تديرها الحكومة الأمريكية إلى 80.9 مليار دولار في عام 2023 مقارنة بنحو 51.9 مليار دولار في عام 2022. وقد ارتفع هذا الرقم على الأرجح بفضل المساعدات الهائلة التي تمنحها الولايات المتحدة لجيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية حربه على قطاع غزة، وكان آخرها حزمة مساعدات وصلت إلى 14.3 مليار دولار طلبتها إدارة بايدن لدعم دولة الاحتلال عسكريا.
وفي السياق ذاته، أعلنت شركة بي إيه إي سيستمز (BAE Systems) البريطانية، وهي أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في بريطانيا، وتأتي في المركز السابع في القائمة السابقة، عن تسجيل أرباح مالية ضخمة نتيجة ارتفاع الإنفاق العسكري الناجم عن الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. إذ حققت الشركة أرباحا قياسية بلغت 2.7 مليار جنيه إسترليني قبل خصم الضرائب، وبلغ حجم مبيعاتها الإجمالي رقما قياسيا وصل إلى 25.3 مليار جنيه إسترليني خلال العام الماضي.
ينعكس هذا النجاح المالي على سوق السلاح العالمي بوجه عام، إذ شهدت تلك الشركات زيادة كبيرة في قيمة أسهمها عقب ارتفاع الإنفاق العسكري عالميا. كما تؤكد تلك الأرقام صحة التوقعات بارتفاع مبيعات أكبر شركات الأسلحة الأميركية، مثل لوكهيد مارتن وجنرال دايناميكس ونورثروب جرومّان، التي من المتوقع أن تشهد أسهمها ارتفاعا أكبر وسط تزايد حالة الاضطرابات والحروب عالميا، خاصة مع استمرار حرب دولة الاحتلال على قطاع غزة، واستهلاكه كميات هائلة من الأسلحة والذخائر التي تصنّعها وتنتجها تلك الشركات الأميركية.
تؤدي شركة لوكهيد مارتن الأمريكية دورا محوريا في عمليات الجيش الإسرائيلي في حربه الجارية على قطاع غزة. إذ تزود الشركة الأميركية العملاقة دولة الاحتلال بمختلف أنواع الأسلحة، وربما أشهرها الطائرات القتالية من طراز إف-35 وإف-16، المعروفة بتقنياتها الحديثة وقدراتها القتالية المتطورة، التي يستخدمها جيش الاحتلال بكثافة في شن غارات جوية على قطاع غزة. وتشكل تلك الطائرات أساس التفوق الجوي لدى الجانب الإسرائيلي.
تشتهر شركة" بي إيه إي سيستمز" أيضا بإنتاج مدفع الهاوتزر إم 109 (M109) الذاتي الحركة، وهو سلاح مدفعية متنقل يستخدم قذائف عيار 155 مليمتر. ويستخدم جيش الاحتلال هذا السلاح بكثافة في إطلاق آلاف القذائف على قطاع غزة، بما فيها قنابل الفوسفور الأبيض التي تعدّ أداة مفضلة تستخدمها قوات الاحتلال في معاركها ضد سكان القطاع، وهي أسلحة حارقة تحتوي على الفسفور الأبيض حمولة أساسية، صُمِّمت لتوليد حرارة شديدة تبلغ قرابة ألف درجة مئوية إلى جانب قوتها التدميرية. ولا تكتفي شركة "أر تي إكس" بتزويد سلاح الجو الإسرائيلي بالصواريخ المُعدّة للطائرات المقاتلة فحسب، بل تزود جيش الاحتلال أيضا بالقذائف المخترقة للتحصينات، كما تنتج الشركة الأمريكية، عبر التعاون مع شركة رافائيل الإسرائيلية، صواريخ اعتراضية لمنظومة القبة الحديدية الدفاعية الإسرائيلية.
وتصنّع شركة جنرال دايناميكس الأمريكية، وهي سادس أكبر شركة سلاح عالميا، قذائف مدفعية من عيار 155 ملم، يستخدمها جيش الاحتلال في قصف قطاع غزة، وقد تتجاوز تكلفة القذيفة منها 15 ألف دولار. ووفقا لما ذكره أحد القادة لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، فقد أطلق أحد الألوية الإسرائيلية نحو 10 آلاف قذيفة من هذا النوع باستخدام مدفع الهاوتزر إم 109 الذي تنتجه شركة "بي إيه إي سيستمز" البريطانية. كما أن الشركة الأميركية تصنّع الهياكل المعدنية لسلسلة قنابل إم كيه-80 (MK-80)، وهو السلاح الأساسي الذي يستخدمه جيش الاحتلال الإسرائيلي لقصف غزة.
في النهاية، يجب تأكيد أن كل تلك الأمثلة السابقة مجرد لمحة بسيطة عن تعقيدات سوق السلاح العالمي، ومدى ضخامة تشابكاته، التي تتحكم فيها بالأساس الولايات المتحدة عبر الشركات الكبرى المسيطرة على صناعة وإنتاج السلاح عالميا.